رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

Alsharq

د. أحمد القديدي

د. أحمد القديدي

مساحة إعلانية

مقالات

977

د. أحمد القديدي

من نوادر الحجر الأمني والسجني قبل الصحي

19 يونيو 2020 , 01:30ص

الحجر لدى جيلي له تاريخ وله طرائف، وهذه بعضها للشباب الذي لم يعشها: أول حجر عشته في حياتي ورسخ في ذاكرتي الطفولية كان "حجر" المقاوم المسلح عام 1953 صهر خالتي ابن قفصة (عثمان سعيد) بتشديد الياء رحمه الله ثم عينه بورقيبة بعد الاستقلال ضابطاً في سلك الحرس الوطني (أكيد أن بينكم من جيله من عرفه) كانت عصابة (اليد الحمراء) الذراع المسلحة الاستعمارية ذات ليلة من شتاء 53 تحاصر منزل خالتي جنات زوجة عمه أحمد سعيد (مقابل باب الخوخة في القيروان) حيث يختبئ المقاوم عثمان بعد أن نفذ اغتيال أحد أعيان الخونة (ح.ب)، وجاء أعوان اليد الحمراء في سيارة (تراكسيون) سوداء وتوقفت أمام مسجد العلاقي الصغير أمام منزلنا ومنزل خالتي قبيل الفجر، ففتح والدي ستار شباكنا المطل على الساحة بحذر وحدثني بهمس وأنا طفل في السابعة عن سر السيارة ومن نزل منها من أعوان الاستعمار وهدفهم، ولكن والدي كان من قبل اتفق مع عثمان سعيد على الخطة (باء) وفعلا تمت بنجاح، حيث انتقل عثمان مع رشاشه (الذي طالما لمسته بيدي ببراءة الطفولة أمام أمي المذعورة) من سطح الخالة إلى سطح بيتنا، وتم حجره فيها واقتحم أعوان المستعمر منزل الخالة بيت آل سعيد أعمامه ولم يجدوه ولم يخطر على بالهم أنه قفز من سطح سعيد إلى سطح القديدي الجيران، ووالدي رحمه الله دستوري قاعدي عادي قام بواجبه.

أما الحجر الثاني ففي خريف عام 1969 كنت أنا وأحمد الهرقام (متقاعد اليوم من الجامعة العربية) مطلوبين للتحقيق في أمن الدولة بسبب موقفنا المساند لأحمد بن صالح لا لأننا نؤيد التعاضد بل لأن التعاضد قرره بورقيبة والحكومة كلها وقلنا وقتها بل وكتبنا: لا يجوز أن يستعمل بن صالح كبش فداء، وكنا نستعد للرحيل إلى باريس حيث سجلت أنا في جامعة (فنسان) وأحمد سجل في المعهد العالي للشؤون الاجتماعية بباريس.. ولكن تمت مصادرة جوازينا و"استنطقنا" محافظ الشرطة حسونة العوادي وقيل لنا "ابقيا على ذمة التحقيق فسندعوكما قريبا" الحقيقة خشينا من عواقب التعذيب في دهليز الداخلية والإيقاف لهول ما سمعنا من روايات أصدقائنا المتهمين بالانتماء لجماعة أفاق (برسبكتيف)، وخاصة صديقي وابن مدينتي القيروان إبراهيم رزق الله (الطبيب فيما بعد وكنت أنا ملازمه في القيروان بعد إطلاق سراحه!) وفكرنا في الاختفاء عن أنظار الأمن لأسابيع واتجهنا إلى صديقنا وابن مدينتنا (عبدالرحمن الرحماني) وهو ضابط في الحرس الوطني بالزي الرسمي (وأصبح بعد ذلك محامياً في القيروان) وطلبنا منه أن نختبئ في شقته الصغيرة وهي تقع في نهج 18 جانفي ملاصقة لأمن الدولة فامتنع وقال لنا: "يا أولاد الكلب باش تبيلكوني أنا ضابط في الحرس وشقتي جارة الداخلية" وقلنا له يا خونا عبدالرحمن لا ملجأ لنا سواك فأنت لن يتطرق إليك الشك وذكرناه بقيم النجدة وإجارة المستجير فاقتنع واستيقظ فيه ضمير الشباب الثوري الزيتوني من تحت الزي الرسمي وبالفعل "تم حجرنا أسابيع في شقته يأتينا هو بأكلنا وبعض الصحف ونسهر مع الأدب والشعر وبعض طيش الشباب" فالتحية لك من الأعماق بعد نصف قرن يا عبدالرحمن وحيا الله ذلك الحجر.. الأمني قبل هذا الحجر الصحي!، أما نوادر الحجر السجني في وطني قبل الثورة وربما في أغلب أرجاء العالم العربي فهي كثيرة تستحق أن أقص بعضها على الشباب من القراء وأبدأ بما قصه عليّ الصديق ورفيق المنافي د. المنصف المرزوقي (الرئيس الأسبق) حين كنا نتجول معا أيام الأحد في الغابة المحيطة بمنزلي الريفي في ضواحي باريس وهو يحب الريف والطبيعة كان يحدثني عما عاشه في سجن زين العابدين بن علي قال لي: كنت في العنبر مع سجناء آخرين أحتفظ دائما بعود ثقاب (عرف وقيد بالتونسي) في جيبي فقلت له حسب علمي أنت لا تدخن قال لا طبعا والسر هو أن جهاز التلفزيون القديم الأبيض والأسود الموجود في العنبر في سجن (9 أفريل) كان هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يجري في تونس حتى مع التلاعب بالأخبار وغسل العقول ومشاهد الزغرادات المضحكات أمام "السيدة الأولى" ولكن جهاز التلفزيون يعمل بصعوبة ثم يتوقف بدون سبب ونحرم من متابعة المهازل الإعلامية فأليت على نفسي أن أجتهد بلا خبرة حتى أكتشف سر الخلل ووفقني الله إلى معرفة الداء التلفزيوني وهو في غاية البساطة.. مجرد علة في زر فتحه وإغلاقه لأنه غير مثبت بصورة قوية فحاولت تثبيته بعود ثقاب أدسه بين "الزر" المتمرد اللعين والجهاز المتهالك السجين وكانت المفاجأة لي وللسجناء إذ استقرت الشاشة تعطينا أخبار إنجازات "صانع التحول" ومطامع حرمه في السلطة من بعده وخاصة زغاريد النساء التجمعيات! نعم مجرد عود ثقاب أعاد لنا بث القناة الأولى والثانية (اسمها السابع تيمنا) فهلت علي من رفاق الزنزانة عبارات الشكر والتهاني تقديراً لخبرتي التكنولوجية!.

[email protected]

مساحة إعلانية