رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

Alsharq

د. أحمد القديدي

د. أحمد القديدي

مساحة إعلانية

مقالات

1889

د. أحمد القديدي

اعتذار الدول لمن ظلمتهم

24 يوليو 2020 , 01:35ص

يدور هذه الأيام لدى نخب الجزائر وتونس جدل مشروع حول مطالبة هذين الشعبين السلطات الفرنسية بتقديم اعتذار عما اقترفته دولة فرنسا إبان مرحلة استعمار الجزائر وتونس من انتهاكات وأحيانا مجازر يندى لها جبين الإنسانية، وشارك في الجدل الرئيسان عبدالمجيد تبون وقيس سعيد كل منهما بموقف، والغريب أن فرنسا في عهد الرئيس شيراك قدمت اعتذارها الرسمي بلسان شيراك لليهود الفرنسيين على ما نالهم من عسف وتشريد وحتى إبادة حين كانت الدولة الفرنسية خاضعة للنازية الهتلرية، وأعرب اليهود وطبعا إسرائيل عن تقدير اليهود لذلك الموقف الشجاع.

كما أن فرنسا منذ عهد الرئيس ساركوزي إلى اليوم تصر على مطالبة الجمهورية التركية بالاعتذار لأرمينيا على أساس"مجرد ادعاءات غير مسنودة تاريخيا أفادت بأن الدولة التركية في عهد السلطان العثماني مارست إبادة جماعية للأرمن!"، وأحرى أن تراجع النخبة الفرنسية الراهنة قراءة تاريخها الاستعماري ونحن نسجل أن الرئيس (ماكرون) استهل عهدته الرئاسية بالتصريح الشجاع أثناء زيارته للجزائر سنة 2017: "بأن للاستعمار ممارسات ظالمة يمكن نعتها بالجرائم ضد الإنسانية"، لكن باب الاعتذار الفرنسي الرسمي ظل موصداً، بينما يدرك الجزائريون والتونسيون أن هذا الجيل الجديد من السياسيين الفرنسيين لا يد لهم فيما فعله بعض أجدادهم من فظاعات ضد شعوب آمنة انتهت إلى إعلان ثوراتها في الخمسينيات ونالت استقلالها بعد تضحيات جسام.

لكن الذي يحيرني هو أن بعض الدول التي تطالب مستعمرها القديم بالاعتذار هي ذاتها سبق أن اضطهدت بعض مواطنيها لأسباب عديدة، منها اختلاف الآراء والانتماءات، ومنها فرض الأنظمة بالقوة وتكميم الأفواه ثم هي نفسها لا تعتذر، ولهذا السبب عبرت لصديقي الرئيس الأسبق المؤقت للجمهورية التونسية منصف المرزوقي عما قام به في باب اعتذار الدولة التونسية لعائلات مسؤولين أو شخصيات سابقة عما نالهم من ضيم وما طالهم من مظالم، وكان مشهداً يشرف تونس الجديدة حين وقف رئيس الجمهورية يعتذر لأسرة الزعيم صالح بن يوسف طيب الله ثراه باسم الدولة التونسية، والزعيم الشهيد اغتيل في صيف سنة 1961 في أحد فنادق مدينة فرنكفورت بألمانيا، كما اعتذر لأسرة الزعيم الحبيب بورقيبة عما ناله من ظلم بعد الانقلاب عليه سنة 1987 فتم وضعه في إقامة جبرية قسرية أنهت حياته بشكل اضطهاد مجاني لا يليق بزعيم.

إلا أنني كنت أتمنى أيضا ألا تتردد الدولة باسم رئيسها الحالي قيس سعيد في الاعتذار لكل المضطهدين والمقموعين والمطاردين على مدى العقود الخمسة الماضية أي في عهدي بورقيبة وبن علي، فالوفاء الذي يعبر عنه التونسيون هذه الأيام لبورقيبة بمناسبة ذكرى وفاته هو وفاء صادق لزعيم كبير لكن أخطاء بورقيبة كانت أيضا كبيرة ولا يخلو منها عهد من عهود الدول في العالم.

والتاريخ نقرأه بعيون الوفاء ولكن كذلك بعيون الحقيقة ورد الاعتبار لكل من ناله عسف أو راح ضحية انتقام، هنا يكمن شرف الدولة العادلة المنصفة الأمينة ولا أحسب الدولة التونسية المنبثقة من شرعية الثورة على الأقل نظريا ومبدئيا إلا مؤسسة قائمة على العدل والإنصاف والأمانة.

إن أولى الأسر التونسية التي علينا تقديم الاعتذار لها هي من بقي حياً من أسرة ملوك تونس الحسينيين، لأن هذه الأسرة التي عزلها بورقيبة عن العرش وأسس الجمهورية في 25 يوليو 1957 تعرضت للإهانة والسلب والنهب دون أي اعتبار لما كان لها من دور وطني مع الملك الصالح محمد المنصف باشا باي الذي اختار أن ينحاز لشعبه ويواجه الاستعمار إلى أن اغتيل مسموما في منفاه بمدينة (بو) الفرنسية وكذلك الملك الصالح محمد الأمين باي الذي اختار لرئاسة حكومته من الحزب الدستوري الزعيم بورقيبة وتعرض بعد خلعه لسوء المعاملة والإهانة وزج بأولاده وصهره الوزير محمد بن سالم وبوزيره محمد سعد الله في السجون بتهم كيدية وتوفي الوزير محمد سعد الله في السجن وهو أحد مؤسسي الإدارة التونسية المستقلة ومؤسس المدارس الريفية كما توفي الملك محمد الأمين في شقة صغيرة بحي (لافايات). ثم إن رئيس الحكومة الأسبق في وزارة الاستقلال طيب الذكر الطاهر بن عمار الذي وقع بيده وثيقة الاستقلال يستحق أهله وأولاده اعتذار الدولة بعد أن انتقم منه بورقيبة بلا سبب وجيه وأودعه السجن حين كان مفتاح السجن بيد بورقيبة وليس بيد القضاء.

وبعد ذلك تأتي مأساة اليوسفيين من أنصار الزعيم المرحوم صالح بن يوسف وما أصابهم في أرواحهم وأملاكهم وذريتهم من مظالم ومحو من التاريخ أعقبتها مباشرة ملاحقات اليساريين الشبان من مجموعة (آفاق) وهم من نخبة شباب تونس في أواخر الستينيات ومعهم القوميون والبعثيون الذين أحبوا وطنهم لكن بطريقتهم وحسب مبادئهم فطوردوا وسجنوا وتحملوا عقودا من الملاحقات والتهميش والضيم، وحلت منذ سنة 1969 محنة أحمد بن صالح الوزير القوي الأسبق للاقتصاد الذي مسح فيه بورقيبة سكين تورطه الشخصي وتورط حكومته في مغامرة (التعاضد) فحوكم الرجل ظلما ثم نجا بجلده للمنفى ولم يناصره أحد ممن كان في بطانة بورقيبة ثم انتهى عهد بورقيبة بمحنة محمد مزالي رئيس الحكومة الأسبق رحمه الله الذي تشرفت بمرافقته في منفاه وتحملنا اضطهاد النظام البائد لنا ولأهلنا لمدة عقدين فصودرت بيوتنا وشتت أولادنا ولوحقنا أنا وهو من منظمة الإنتربول سنوات طويلة.

إن اعتذار الدولة موقف أخلاقي وسياسي وقيمي لعله يساهم في كتابة التاريخ الوطني بأكثر أمانة وإنصافاً.

[email protected]

مساحة إعلانية